باحث في التاريخ المعاصر
عندما شرعت القوى الأوربية في تقسيم إفريقيا إلى مناطق نفوذ استعمارية أواخر القرن 19م، كانت إسبانيا تعيش على وقع فقدان مستعمراتها في أمريكا اللاتينية، ولم تجد سبيلا إلى استعادة بعض من أمجادها الاستعمارية المفقودة، سوى انتظار ما ستجود به عليها الاتفاقيات التي عقدتها القوى الاستعمارية فيما بينها، ورغم أنها كانت ترى في نفسها الأحق باستعمار المغرب بحكم القرب الجغرافي والروابط التاريخية، إلى أن موقعها ضمن القوى الموجودة آنذاك، خصوصا فرنسا وإنجلترا وألمانيا، والمنافسة الشرسة حول المغرب لم يكن يسمح لها بالاستفراد به، مما جعلها تقبل في نهاية المطاف بمناطق نفوذ في شمال المغرب وجنوبه.
كان الوضع القانوني لإسبانيا في المغرب ينطوي على إهانة للشخصية الاستعمارية الإسبانية، ففي الوقت الذي كانت فيه فرنسا قد دخلت المغرب بموجب معاهدة الحماية الموقعة بين السلطان عبد الحفيظ والسفير الفرنسي رينو سنة 1912، دخلت إسبانيا إلى المغرب بموجب اتفاق مع فرنسا، حيث أصبح الوجود الإسباني في إطار منطقة نفوذ (Zona de influencia) وليس منطقة حماية (zone du protectorat) كما تشير إلى ذلك الوثائق الرسمية الإسبانية خلال تلك المرحلة.
إن صيغة الوجود الإسباني في المغرب، اعتبرها الإسبان دائما تنطوي على إهانة من طرف فرنسا، فمناطق النفوذ هذه (الريف، جبالة، الصحراء)، كانت فقيرة من حيث الموارد وتنطوي على صعوبات تضاريسية جمة، مما جعل مخاطر تدبيرها كمستعمرة تفوق ما يمكن أن تجنيها إسبانيا من منافع، في حين وضعت فرنسا يدها بموجب معاهدة الحماية على أغنى المناطق المغربية من حيث الموارد الفلاحية والمعدنية.
ورغم أن إسبانيا كانت تبدو ذلك الشريك الاستعماري المفترض لفرنسا، إلا أن واقع ممارستها الاستعمارية، كان ينطوي دائما على رغبة عميقة في إظهار الشخصية المستقلة عن فرنسا على مستوى التدبير والسياسات لاستعمارية، وبدا ذلك واضحا في تدبير العلاقة مع تنظيمات الحركة الوطنية وتوسيع هامش الحريات أمامها بشكل كان يثير غضب الإدارة الاستعمارية الفرنسية في أحيان كثيرة، كما أن إسبانيا في بعض المحطات كانت تستثمر وجودها في المنطقة لإظهار غضبها من الإدارة الفرنسية التي كانت تتجاهل إسبانيا عند اتخاذ بعض القرارات التي تهم البلاد، ومن ذلك نفي السلطان محمد بن يوسف سنة 1953، حيث كان رد الإدارة الإسبانية تساهلها مع تنظيمات الحركة الوطنية التي نظمت تجمعا خطابيا في تطوان احتجاجا على نفي السلطان، وهو ما اعتبرته فرنسا طعنة في ظهرها من طرف شريكها الاستعماري، وتقويضا لجهودها من أجل إطالة أمد احتلالها للبلاد. وعلى مستوى آخر، لم تتوقف محاولات إسبانيا لفصل المنطقة الشمالية والجنوبية عن الدولة المغربية، عبر تقديم عروض لنخبتها وخليفة السلطان بتأسيس كيان مستقل.
إن أي محاولة لفهم وتفسير السياسة الإسبانية تجاه المغرب، لا يمكن أن تتم دون استحضار الجذور التاريخية للوجود الإسباني فيه، فالمغرب بالنسبة لإسبانيا كان دائما هو ذلك المنصة التي تعلن من خلالها إسبانيا للقوى الكبرى عن وجودها واستمرارها كقوة إقليمية لها تأثير على مجريات الأمور في حوض البحر الأبيض المتوسط، ولا يمكن فصل المواقف الإسبانية من الوحدة الترابية المغربية عن مواقفها السابقة التي كان الأصل فيها دائما تقويض الوحدة الترابية البلاد، فالتاريخ الطويل من الهزائم الاستعمارية لإسبانيا ووصولها متأخرة دائما في السباق الاستعماري خصوصا نحو المناطق التي تعتبر نفسها الأحق بها (منها المغرب)، يجعلها دائما تتبنى المواقف الصادمة التي تخفي رغبات مرضية في إظهار الشخصية المؤثرة في محيطها الدولي، وهو ما جعلها تتحول في بعض المحطات من دولة إلى حالة نفسية تبحث عن تضميد جراح شخصيتها الاستعمارية.