الحديث عن رمضان في فاس، غالبا ما يختزله أهله في أجواء لياليه بفضاءات المدينة العتيقة، والتي تتحول إلى محج لكل الفاسيين بعد الإفطار، حيث تصبح فاس القديمة الوجهة المفضلة للزوار ولعدد كبير من ساكنة الأحياء بالمدينة الجديدة وضواحيها لقضاء أوقات كلها سهر وسمر وسط المنارات الدينية والمآثر التاريخية، والتي يقصدها عشاقها من أهل المدينة وزوارها طيلة نُهُر رمضان ولياليه، في جو روحاني يعبق بالذكر والتضرع الى الله عز و جل بالدعاء الصالح، فيما تغص الضفة الأخرى بأرجاء المدينة الجديدة، خصوصا بالساحات الخضراء التي تتوسط شارعي الحسن الثاني وعلال بنعبد الله، بالأسر والأطفال الباحثين عن أمكنة عمومية للسهر الرمضاني.
ليالي رمضان.. سحر فاس السنوي
الكثير من عشاق مدينة فاس، يختارون زيارتها في شهر رمضان، حتى يعيشوا الأجواء الساحرة لليالي شهر الصيام، وهم يسيرون في أزقة و دروب هذه المدينة، مارين بجوار حوانيتها وأسواقها و بواباتها الشهيرة وأسوارها وأبراجها وكنائسها ومساكنها، التي تتزين مع انطلاق الشهر الفضيل بالألوان، حيث يستمتع زوار المدينة العتيقة وأهلها بلحظات شرب أكواب من الشاي الأندلسي بنكهة النعناع الطازج”مغربيا”، أو يتناولون”شهيوات”فاسية تملأ محلات ضيقة وصغيرة، تحرص على فتح أبوابها للزبناء منذ موعد الإفطار حتى السحور، في أجواء تفوح بعبق بخور المسك والرياحين.
في فاس العتيقة، ما تزال الانطباعات الأخيرة عن ليالي وأجواء رمضان التي عاشتها مدينة فاس على مر العصور والحضارات، تعتمر في ذهن العائلات العريقة بالمدينة، حيث تسمعهم يتحدثون عن سحر رمضان في فضاءات الأزقة والدروب القديمة المؤدية من وإلى الأسواق التي تجعل الزائر يحس بان فاس البالي يبدو مع توالي أيام رمضان أكثر سحرا، حيث ما تزال بعض النسوة إلى يومنا هذا يحافظن على بعض من طقوس رمضان كما عاشته فاس على مر العصور.
تقول الحاجة الباتول، وهي امرأة في عقدها السادس، بأن الكثير من خصوصيات رمضان بمختلف مناطق المغرب، باتت تغيب عن الكثير من المناسبات الدينية وفي مقدمتها رمضان، ومع ذلك ما يزال أهل المدن القديمة ومنها فاس خصوصا أولائك الذين ما يزالون يقطنون بالمنازل العتيقة داخل أسوار “فاس البالي” كما يروق لأهله أن يسموه، يقضون ليالي رمضان بنفس الكيفية التي كان أهلنا يستقبلون فيه رمضان ليلا، تضيف”الباتول”، مشددة على أن بعض النسوة من سنها فضلا عن مسنات وشابات في مقتبل العمر، مازلن يجتمعن في سطوح المنازل والتي تتجاور فيها بعضها، لقضاء أوقات حميمية في ليالي رمضان التي تطول وتهيم أوقات سهرها بين الحكايات وحديث النساء عن المعيش اليومي وهن يترقبن ظهور صاحب”النفار”ليعلن حلول موعد السحور، تماما كما كانت النساء الفاسيات يعملن قديما في انتظار”الغياط “، تورد الحاجة الباتول وهي تحكي “للميادين” مشاهد ليالي رمضان بفضاءات المدينة العتيقة.
مائدة الإفطار..لوحة فنية بأطباق فاسية
رمضان عند الفاسيين، هو شهر الخير والبركة له طعم ونكهة خاصة ، تجتمع العائلة حول المائدة وينتظر الجيران في الحارة وعلى باب دورهم المتلاصقة في أزقة ضيقة”صوت طلقات المدفع” من الذخيرة الحية ليعلن موعد الإفطار، حيث تجتمع العائلات على طاولة واحدة يتبادلون الحديث وهم يتناولون وجبة الإفطار، إيذانا منهم ببدء ليل رمضان والذي يطول بطول الوقت الذي يقضونه حول مائدة الإفطار قبل الانطلاق نحو المساجد والأسواق والساحات العمومية لإتمام السمر الرمضاني.
وبحسب موسوعة الحاضرة الإدريسية حول قصص نسائها وعاداتهن، فإن اهتمام الفاسيات بموائد رمضان منذ القدم واستمراره حتى يومنا هذا ولو بنسبة قليلة له ما يبرره، حيث تكثر خلال هذا الشهر الفضيل ما يطلقون عليه”لعراضة ديال رمضان”، والتي تحولت كما تقول فاطمة الزهراء بنكيران إحدى المدافعات عن تقاليد أهل فاس في رمضان والأعياد الدينية، إلى عادة مقدسة بين العائلات في فضاءات المدينة العتيقة، تسبقها”عراضة استقبال رمضان”، والتي تكون عبارة عن دعوة لتناول وجبة الغداء أو عشاء يجتمع فيها أفراد العائلة الواحدة ليلة حلول شهر الصوم، حيث تكون بمثابة حفلة وداع لأيام الأكل والشرب المباح في أي وقت والاستعداد للصوم، فيما تحرص العائلات الفاسية بحسب محدثتنا على أن يكون أول إفطار في”الدار الكبيرة” بفضاءات المدينة العتيقة، يحضرها أفراد العائلة الذين فضلوا السكن الفردي بعد الزواج، كما تكون “لعراضة ديال رمضان” فرصة سانحة لإصلاح ذات البين بين المتخاصمين من أبناء العائلة الواحدة.
فعموم الفاسيات قديما وحاضرا، بحسب مال كشفته لـ”الميادين”حليمة الأندلسي إحدى نساء فاس المهتمات بتاريخ عادات وتقاليد نسوة المدينة عبر الحقب التاريخية، بأنهن يجدن في شهر الصيام فرصتهن للتنافس والتباهي في إعداد “شهيوات”رمضان، والتي تتنوع كما وكيفا بحسب الوضع الاجتماعي للعائلة وإمكاناتها المادية، من حلويات تميزها أطباق “لخليع” و”اكريش” و”سلو” و”الشباكية” و”البريوات” و”الفقاص” و”كعب غزال”،و”البسطلية ” و”المحنشة” و”رزة القاضي” و”الحريرة” على الطريقة الفاسية، إضافة الى بعض المتممات التي اعتاد الصائمون بفاس على تناولها في الشهر الكريم كالتمر المحشو باللوز أو”الكركاع”ومشروب الحليب الممزوج بماء الزهر يحرص عشاقه على اقتنائه من تجار محلات ضريح مؤسس فاس إدريس الثاني، حيث تحرص النساء الفاسيات تردف حليمة على تقديم مائدة الإفطار في أزهى حللها، وهي تتحول إلى قطعة فسيفسائية أشبه بلوحة فنية، تعكس أدق التفاصيل ولمسات نساء فاسيات مشهود لهن بعلو كعبهن في الطبخ الذي يعتبرنه فنا قبل كل شيء.
الصورة نفسها نقلتها “لالة جميلة الإدريسي”، وهي ربة بيت تقول إنها تشبثت بمنزلها العتيق الذي رممته لمرات عديدة حتى تستمر حياتها بالمدينة القديمة التي تعشقها حتى الجنون، بعد أن انتقل أبناءها وبناتها للعيش رفقة أزوجهم بشقق العمارات بأحياء المدينة الجديدة، حيث قالت وهي تتحدث عن شهر الصيام، بان” الواحد ما يعرف جارو شنو طابخ إلا في رمضان “، فيه يتبادل الجيران ما طبخوه و ما حضروه من “شهيوات” رمضان الذي يأخذ صفة تعايش حميمي بين الناس”.
والافت أن الكثير من الفاسيات و الفاسيين وباقي سكان نفس المدينة، باتوا يحنون الى أجواء رمضان في المدينة العتيقة حين كانت كل الدروب والأزقة مليئة وهي تحضن أهلها قبل أن يهجرها أغلبهم نحو أحياء المدينة الجديدة، حيث يشدد أغلب سكان الحاضرة الإدريسية ممن تحدثت لهم “الميادين”، على أن”رمضان كان يحل بفاس البالي مسبوقا برائحة الأطباق الفاسية الشهية، والتي تعم أزقة المدينة العتيقة وحاراتها، حيث تتجاور فيها الأبواب والنوافذ، ويتبادل الناس ما طبخوه يدا بيد، لتصبح رائحة رمضان أكثر قوة مع توالي أيامه، يميزها عبق التوابل و البخور ورائحة الأطعمة والأطباق التي تتفنن الفاسيات في إعدادها.
- سهر و سمر و عبادة
بعد الإفطار، تتحول الليالي إلى نهار في أجواء لا تجدها إلا في الشهر الفضيل، ويتوزع أهل فاس بين التجوال بشوارع المدينة العصرية خصوصا شارع الحسن الثاني حيث الماء و الخضرة وواجهات محلات تجارية تحتضن أحدث صيحات الموضة من ملابس وسيارات فاخرة وتكنولوجيا حديثة وشتى أنواع الإثارة لما يحض المجتمع الاستهلاكي لشرائه، حيث يصطحبون أطفالهم الصغار الذين يصومون اليوم كله للاحتفاء بهم و تشجيعهم على الصيام الذي يبدأ بإحدى الأيام الأولى من أيام الصوم وينتهي بصوم يوم ليلة القدر.
في ليالي رمضان، تظهر الفتيات الصغيرات بلباس”القفطان الفاسي”،ويرتدي الذكور الجلباب والطربوش الأحمر الفاسي أو”الجابَدور”، من أجل أخد صور تذكارية تؤرخ لأيام صيامهم الأولى بالساحات العصرية للمدينة الجديدة، فيما تعرف دروب و أزقة المدينة العتيقة ضجة و غوغاء، تنساب معها خطواتك حين تلتهمك تفاصيل دروب ضيقة تغدو فيها حركة كبار وصغار، حركة انتشارية بملابس تقليدية، حيث تتلاقى أجسادهم في أزقة ضيقة، وتتقاطع في اتجاهات عديدة و تتلاحم من جديد دون تدافع، وهم يشدون الرحال إلى المساجد العتيقة التي يرجع تاريخ بناء الكثير منها إلى عدة قرون خلت.
وتعرف مساجد المدينة العتيقة، خلال شهر رمضان إقبالا كبيرا من جانب المصلين، خصوصا مع الأيام العشر الأواخر من رمضان، غير أن أكبر إقبال هو الذي يعرفه جامع القرويين، لأداء صلاة العشاء والتراويح، والتي تكاد تكون مقدسة عند أهل فاس، فيما تتحول باقي المنارات الدينية والروحية والمآثر التاريخية، إلى مزارات يقصدها أهل المدينة وزوارها طيلة نُهُر رمضان ولياليه في جو روحاني يعبق بالذكر والتضرع الى الله بالدعاء الصالح.
بعد الصلاة، يبدأ السمر والسهر، حيث تحتضن الكثير من المنازل العتيقة بأشهر الحارات بمدينة فاس العتيقة، تجمع الكثير من هواة الموسيقى الروحية ويمضون جزءا كبيرا من الليل في عزف مقطوعات من الطرب العربي أو من الموسيقى الأندلسية المغربية أو من فن الملحون، يحضرها أفراد العائلة والجيران والأصدقاء، وكل المولعين بهذه السهرات التي تمتح من نماذج سهرات رمضان التي تعود إلى عقود طويلة خلت، لكن القليل من العائلات الفاسية، ما تزال تحافظ عن هذا السمر الموسيقي الشعبي الذي تحول من دور العائلات إلى الرياضات السياحية، بعدما حولها ملاكوها في رمضان إلى قاعات تنظم بها سهرات مدفوعة الثمن، زبائنها من الطبقات الميسورة، فيما تتجه العائلات الفقيرة إلى ساحة باب بوجلود الشبيهة بساحة”جامع الفنا”، حيث تنتشر مع كل رمضان وبالخصوص ابتداء من الأسبوع الثاني منه، “لحلاقي” والفرق الموسيقية الشعبية والمعارض التجارية.
بعد السهر والسمر، يبدأ صوم اليوم الموالي من أيام رمضان، مع وجبة السحور، والتي غالبا ما تكون عبارة عن أكلات خفيفة لا تتعدى قطع”الحرشة” أو”الملاوي” مع الشاي الأندلسي بنكهة النعناع والمحضر على الطريقة الفاسية، ذلك أن الفاسيين يحرصون على تناول وجبة العشاء عقب صلاة التراويح، وهي وجبة تتنوع عند أهل فاس بين أكلة الدجاج و”البسطيلة”.
فمع حلول كل رمضان، يهلل أهل فاس كغيرهم من المغاربة بباقي المدن و القرى بقدومه ويتنافسون في إحياء لياليه، حيث يرون في هذا الشهر الفضيل فرصتهم لاجتماع العائلة على طاولة واحدة والتي تكون مناسبة للترابط العائلي من جديد بعد انصراف طويل للتفرغ لمشاغل الحياة وهمومها، لكن فرحة رمضان سرعان ما تراجعت لدى الكثير منهم خصوصا العائلات الفقيرة ذات الدخل المحدود، والتي باتت تواجه صعوبات مع متطلبات هذا الشهر الفضيل، والتي تزداد عاما بعد آخر، لتصبح عبئا على كثير من العائلات المغربية، لكنها مع ذلك تحرص على أن تستشعر فرحة رمضان على الرغم من ظروفها الصعبة.