في عام 1754 اشترى الكاتب والفيلسوف الفرنسي، فرانسوا ماري آروويه الذي اشتهر قيد حياته باسم فولتير،
ضيعة قديمة في ضواحي جنيف سماها النعيم جعلته بعيداً وآمنا من مطاردة حكام باريس وبرلين المستبدين، وانصرف إلى زرع حديقته واسترداد صحته، وعندما بدأت حياته تسير في طريق الهرم والشيخوخة، دخل في انبل واعظم انتاجه الفكري.
ضيعة النعيم
“كانت الضيعة التي اشتراها في فيرناي منزلاً مؤقتاً إلى أن يجد له مسكنا يستقر فيه، وفي عام 1758 وجد هذا المسكن في “فرناي”، داخل الحدود السويسرية، وعلى مقربة من الحدود الفرنسية، حيث يشعر بالأمان بعيداً عن السلطة الفرنسية، ويكون قريباً من ملجأ فرنسي لو حاولت الحكومة السويسرية مضايقته. وقد وضع هذا المسكن الجديد حداً لطوافه المتقلب هنا وهناك. لقد دل طوافه من مكان إلى آخر على توتر اعصابه، كما دل على خوفه من المطاردة، انه الآن في الرابعة والستين، ولأول مرة يعيش في بيت يملكه نفسه. كان سعيداً في حديقته، يزرع اشجار الفاكهة التي لم يتوقع ان يراها تزدهر وتحمل في حياته”.
“وفي قصره في فرناي راح يعيش في بذخ ؛ وقَدِمَ زوار من مختلف أرجاء أوروبا لمقابلته. واستمر في مشاحناته التي لا يحصى لها عد مع خوارنة، وأساقفة، وقساوسة جنيف، وروسو، إلخ. وقاد الحملة الفلسفية من أجل إصلاح العدالة والدولة، ومن اجل الحرية، وعلى الأخص من أجل التسامح: فما كان ليرضى بهدف أقل شأناً من رد الدين المسيحي إلى تأليه طبيعي تابع تبعية وثيقة للسلطة السياسية”.
لقد “أصبحت “فرناي” الآن عاصمة العالم المثقف، وزاره فيها كل عالم أو حاكم مثقف بشخصه أو بادله الرسائل، وزاره رهبان دخل الشك إلى ايمانهم، وأرستقراطيون أحرار، وسيدات مثقفات، وسعى اليه جيبون، وبوزويل، من انجلترا، وثوار عصر التنوير وغيرهم كثيرون، لقد أرهق هذا السيل من الزوار فولتير وكبده الكثير من النفقات، وكان يشكو من ذلك بقوله، انه أصبح مدير فندق لاوروبا كلها”.
أضف إلى هذه الضيافة المستمرة، سيلا من الرسائل التي لم يشاهدها العالم من قبل، لقد وردت عليه الرسائل من كل صوب وحدب، ومن رجال على اختلاف انواعهم ومراكزهم، لقد كتب له عمدة بلد في المانيا – “يسأله بثقة عن وجود الله أو عدم وجوده.
ملك السويد وفولتير
“لقد اعتقد ملك السويد جوستاف الثالث بزهو، أن فولتير قد لمح عن بلاده وكتب له يقول، أن هذا اعظم تشجيع لهم ليبذلوا جهدهم هناك، واعتذر كريستيان السابع ملك الدنيمرك لعدم قيامه فورا بجميع الاصلاحات، وأرسلت له كاترين الثانية ملكة روسيا هدايا جميلة، كاتبته باستمرار، ورجت أن لا يعتبرها لجوجة ملحاحة.وحتى فردريك (ملك بروسيا) بعد سنة من السكوت عاد إلى مراسلته بقوله:
” لقد ارتكبت معي اخطاء كبيرة، وقد عفوت عنها جميعها، واريد ان انساها. ولولا جنوني بحب عبقريتك النبيلة لما استطعت ان تهرب بريشك وتنجو بنفسك.. هل تحب سماع اشياء حلوة، حسناً جداً، ساخبرك بعض الحقائق، أني أرى فيك أعظم عبقري ولدته الأجيال، وأُكَبِّر شعرك، وأُحب نثرك، ما جاء كاتب قبلك أبدا بمثل حصافتك وذكائك وذوقك وبلاغتك، إنك ساحر الحديث، وتعرف كيف تدخل المتعة إلى قلوب الناس وكيف تعلمهم في وقت واحد، انك اعظم مغر عرفته اطلاقاً، وقادر على اثارة حب الناس لك اذا اردت، ولديك من نعمة العقل ما يمكنك من الاساءة لمن يعرفونك مع ضمان تسامحهم معك. وبالاختصار فانت كامل لو لم تكن انساناً”.
“وفي الوقت الذي كان فيه الفكر في المانيا وانجلترا يتحرك براحة في خطوط التطور الديني، كان العقل الفرنسي يقفز من الايمان الحار، الذي ادى إلى ذبح البروتستانت، إلى العداء البارد، الذي انقلب فيه هلفتيوس وهولباخ وديدرو على ديانة آبائهم، وقد تأثر فولتير بأفكارهم، وأُعجب بها، وعاش آخر سنوات عمره متأثراً بأفكار هلفتيوس هولباخ وديدرو”.
لقد كان ذلك العصر عصر العقل كما قال “بين”، ان هؤلاء الرجال لم يرتابوا ابداً بأن العقل هو الامتحان البشري النهائي لكل أنواع الحقيقة والخير. لقد قالوا دع العقل ينطلق ويتحرر وسيقوم ببناء حياة مثالية فاضلة في أجيال قليلة.
ومن الطبيعي ان يحيط هؤلاء الملحدين الذين تعاونوا على وضع الموسوعة التي ذكرناها، بفولتير الذي كان مهتماً بكل شيء وله يد في كل معركة، وكانوا سعداء في اعتباره زعيماً لهم، وطلبوا منه ان يكتب مقالات لمشروعهم العظيم، واستجاب لرغبتهم بسهولة وخصوبة أثلجت صدورهم وأطربت نفوسهم.
موسوعة القاموس الفلسفي
عندما فرغ فولتير من مقالاتهم، قام باصدار موسوعة خاصة به أطلق عليها اسم “القاموس الفلسفي”، تناول فيها بجرأة لا مثيل لها الموضوع تلو الموضوع حسب الترتيب الأبجدي، وصب في كل موضوع جزءاً من معرفته وحكمته التي لا تنضب ولا تكل .
في هذا الجانب، يقول ول ديورانت: تصور رجلاً واحداً يكتب عن كل شيء، وينتج موسوعة علمية تعتبر من أعظم انتاجه روعة، وأكثرها قراءة بجانب رواياته، كل مقال فيها نموذج في الاختصار والوضوح والذكاء، قد يطيل البعض في كتابة كتاب واحد، ولكن فولتير مُحْكَم ومختصر في المئة كتاب التي وضعها، وهنا على الأقل يثبت لنا فولتير بأنه فيلسوف، فهو يبدأ مثل بيكون، وديكارت، ولوك وجميع الفلاسفة المحدثين بالشك، ويقول “لقد اتخذت لي مرشداً ومثلاً أعلى القديس “توما ديديموس” الذي اصر دائماً على الفحص والتجربة بيديه”.
كان فولتير “يرفض جميع النظم ” ويظن أن رئيس كل مذهب من مذاهب الفلسفة كان دجالاً نوعاً ما” ويقول كلما سرت أكثر، كلما زاد اقتناعي بفكرة ان الميتافيزيقا بالنسبة إلى الفلاسفة كالقصص بالنسبة إلى النساء، ان الدجالين، المشعوذين هم الذين على يقين وحدهم.
ويضيف ديورانت قائلاً على لسان فولتير: “نحن لا نعرف شيئاً عن العلة الأولى، والحقيقة انه من المغالاة والتطرف تعريف الله والملائكة والعقول، وأن نعرف بدقة لماذا خلق الله العالم، في الوقت الذي لا نعرف فيه لماذا نحرك اذرعنا بارادتنا، ان الشك ليس حالة مناسبة أو موافقة، ولكن اليقين حالة سخيفة ومضحكة، أنا لا أعرف كيف وُجِدْت، وكيف خُلِقتْ، وكيف وُلِدت، أنا لا أعرف شيئاً إطلاقاً طيلة خمس وعشرين سنة أسباب ما رأيت وسمعت وشعرت.. لقد رأيت ما يسمى بالمادة، سواء أكانت في نجم أو كوكب أو في اصغر ذَرَّة يمكن ادراكها بالمجهر، ولا أعرف حقيقة هذه المادة، فقد أوضح لنا بيكون الطريق الذي ينبغي أن يسير فيه العلم.. ولكن جاء ديكارت وفعل عكس ما كان ينبغي أن يفعل، اذ انه بدلاً من ان يدرس الطبيعة أخذ يقدسها.. ينبغي علينا ان نحسب، ونزن ونقيس ونلاحظ، هذه هي الفلسفة الطبيعية، وكل ما تبقى فهو وهم وخيال”.
((فولتير ))
هو فرانسوا ماري آروويه ( François-Marie Arouet) ويُعرف باسم شهرته فولتير (Voltaire).ولد في 21 نوفمبر 1694 ، وتوفي في 30 مايو 1778 م) ، اعتبر قيد حياته كاتبا وفيلسوفا مشهورا ففي فرنسا، عـاش خلال عصر التنوير. عُرف بنقده الساخر، وذاع صيته بسبب سخريته الفلسفية الطريفة ودفاعه عن الحريات المدنية خاصة حرية العقيدة والمساواة وكرامة الإنسان.