يتواصل الجدل حول أوضاع اليسار في الوطن العربي وآفاقه، في مقابل أطروحات تطالب بوحدة اليسار الماركسي وتعزيز التنسيق والعمل المشترك بين القوى اليسارية في العالم العربي والعالم أجمع ضد نظام العولمة الرأسمالي كحليف رئيس ووحيد لدولة “إسرائيل”، ومركزا على كيفية تفعيل واتساع دور التيار اليساري الماركسي القومي الديمقراطي في عملية النضال الوطني والديمقراطي الفلسطيني، وفي هذا السياق يجيب الدكتور غازي الصوراني عن أسئلة الرفاق التي تهم أسباب انحسار اليسار العربي والفلسطيني على وجه الخصوص.
أسباب تراجع و انحسار اليسار العربي بشكل عام واليسار الفلسطيني خاصة
الجميع يعلم التضحيات الغالية في المسار النضالي للحركات الشيوعية واليسارية الماركسية العربية ، التي تركت لنا هوية طبقية عناصرها الاشتراكية والتقدم ومقاومة الامبريالية والرجعية والصهيونية وكل أشكال الاستغلال .
لكن رغم تلك التضحيات لم نتوقف امام مظاهر الفشل والتراجع والانحسار .. ولم نكتشف الفرص من خلال الازمة ، لذلك لا يمكن الحديث عن أزمة اليسار العربي ، وأسباب حالة الانكفاء والتهميش التي وصل إليها اليوم دون مراجعة تاريخ هذه الحركة ، والوقوف أمام أخطائها ومنعطفاتها وجمودها وتبعيتها لموسكو على مستوى التكتيك والاستراتيجيا ، خاصة حديثها عن القرن العشرين باعتباره عصر الانتقال من الرأسمالية الى الاشتركية ، لكن القرن العشرين ترك لنا فشل التجربة الاشتراكية وظهور العولمة الامبريالية ، إلى جانب حروب القوميات والعولمة وتدين السياسة وتسييس الدين والطائفية وتكريس الدولة الكومبرادورية قي مجمل الأنظمة العربية.
تجدر الإشارة هنا إلى السمات الرئيسة للأنظمة العربية من حيث انتشار أوضاع الفقر والاستغلال والاستبداد التي ساهمت في نضج الظروف الموضوعية للثورة، لكن يبدو من المؤكد أن غياب الوعي بالظلم الطبقي سمة مميزة من سمات تطور مجتمعاتنا العربية، الأمر الذي حال دون قيام الثورة، وبالتالي الاستسلام الشعبي العفوي للمقادير، واعتبار كل أشكال الظلم والاستغلال قدراً مكتوباً.
المسألة الأخرى تتعلق بحالة السيولة الطبقية التي تشير إلى عدم تبلور الطبقات عموماً في بلداننا، خاصة البورجوازية الصناعية والبروليتاريا، وهذه الأوضاع تفرض علينا كيساريين ماركسيين الدراسة المعمقة لأفكار جرامشي حول أوضاع التخلف في جنوب إيطاليا، وحديثه عن المثقف العضوي في القيام بدور البديل المؤقت عن الطبقة الغائبة (البروليتاريا).
إلا أن هذه الأوضاع لم يتم استيعابها بصورة واضحة من معظم أحزاب وفصائل اليسار العربي، علاوة على العديد من عوامل القصور الذاتي لتلك الأحزاب وجمودها العقائدي، في إطار تبعية ميكانيكية لموسكو على سبيل المثال.
بالطبع لا يمكن إغفال دور الأنظمة العربية الرجعية أو الوطنية في سعيها ومواقفها العدائية الصريحة ضد الحركات الشيوعية من أجل تدميرها أو تفكيكها.
وبخصوص أسباب الضعف الفكري والسياسي داخل فصائل وأحزاب اليسار العربي وتزايد مساحة الاغتراب فيها ،
تستوقفنا بعض الملاحظات، منها الملاحظة الأولى والتي تتعلق بحالة الضعف التاريخي للوعي العميق بمفهومي القومية( بالمعنى التقدمي النقيض للشوفينية ) والماركسية ، حيث جاء انهيار الاتحاد السوفيتي وتحولات العولمة الرأسمالية ليضفي مزيداً من الارباكات والحيرة والفوضى الفكرية على جميع فصائل وأحزاب اليسار العربي.
الملاحظة الثانية : هي أن اليسار العربي عموما لم يستطع إنتاج معرفة جديدة للواقع السياسي ، الاجتماعي، الاقتصادي ، الثقافي ، القانوني ، برؤية وطنية وقومية يسارية ثورية وديمقراطية من منظور طبقي واضح المعالم.
اليسار الفلسطيني – على سبيل المثال – رهن عدد من القضايا والإشكالات السياسية والمقاومة على حساب الاشكالات المجتمعية الديمقراطية والصراع الطبقي ، وعلى الرغم من أهمية ذلك فإنه لا يمكن من الناحية العلمية أن نرهن كل المشكلات بالقضايا التحررية أو السياسية ، فلا بد من مقاربات علمية لكافة الظواهر الاجتماعية وإيجاد علاقات سببية وروابط واضحة بين التحرر الوطني وقضايا التطور الاجتماعي الديمقراطي.
الملاحظة الثالثة: هي عدم قدرة اليسار على بلورة الدور الطليعي مع متطلبات التغيير الجديدة في المجتمعات العربية مما افسح المجال واسعا امام قوى الثورة المضادة في الانظمة وحركات الاسلام السياسي ، ومن ثم تحول ما سمي بالربيع العربي الى ربيع امريكي صهيوني رجعي ، خاصة وان النظام العربي (ما يسمى بدولة الاستقلال) عمل على تدمير الأحزاب الشيوعية بالعنف والسجون والتخوين والتكفير .
الملاحظة الرابعة تهم اليسار الذي بات في حاجة ماسة اليوم إلى مراجعة التنظيم وأسلوب العمل بمنهجيه ديمقراطية نقيضة للبيروقراطية تستلهم شكل وروح التطورات العلمية والتكنولوجية الحديثة وتتفاعل معها.
أخيراً، أرى أنه ليس من المغالاة في شيء، إذا قلنا بأن ما يسمى بأزمة الماركسية في بلادنا ، هي انعكاس –بهذا القدر أو ذاك- ليس لأزمة وتخلف المجتمع والفكر السياسي العربي ارتباطاً بالمسار التطوري التاريخي المشوه فحسب ، بل ايضا – وبالدرجة الاساسية – الى قصور وعجز احزاب وفصائل اليسار عن صياغة وممارسة قضايا الصراع التناحري ضد العدو الامبريالي الصهيوني من جهة وقضايا الصراع الاجتماعي الطبقي الديمقراطي الداخلي من جهة ثانية ، الامر الذي كان – ومازال – من الطبيعي ان تكبر وتتسع العزلة والفجوات بين قوى اليسار العربي وجماهيرها الشعبية الفقيرة .
على أي حال من الضروري الإقرار بالازمة التي نعيشها كيسار عربي او عالمي والتعاطي مع الازمة باعتبارها فرصة للتغيير والنهوض ، ومن ثم قراءة الماركسية وتطوراتها على ضوء تحولات الواقع الاقتصادي السياسي الاجتماعي ، وذلك بالتركيز على تفعيل الأفكار الماركسية التي تؤكد بأن التاريخ الإنساني كان وما يزال تاريخا للصراع الطبقي وبأن على الطبقة العاملة في كوكبنا ان تحرر ذاتها وتحرر المجتمع كله معها من خلال الدور الطليعي الثوري للأحزاب الشيوعية والماركسية .
اليسار و عصر العولمة والثورة الرقمية
لابد من الاشارة هنا إلى انتشار العولمة الامبريالية على أثر انهيار التجربة السوفيتية، ومن ثم تزايد هيمنة النظام الرأسمالي العالمي عموماً، والإمبريالي الأمريكي خصوصاً على مقدرات الكوكب في إطار العولمة الراهنة من أجل تكريس الاستيلاء على فائض القيمة للشعوب واحتكار ثرواتها وافقارها وتكريس تخلفها وتبعيتها، وذلك في إطار الصراع أيضاً بين النظام الامبريالي الأمريكي المعولم من ناحية وبين الصين وروسيا ودول أمريكا اللاتينية… إلخ … بالطبع وفي هذا الاطار المعولم يتجلى الدور الامبريالي الصهيوني الرجعي العربي في تكريس تخلف مجتمعاتنا العربية وتكريس الهيمنة الصهيونية لإسرائيل كإمبريالية صغيرة في المنطقة .
إلا أن تواصل العملية التطورية التجديدية المرتبطة بالمتغيرات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية المعاصرة المعولمة، مسألة في غاية الأهمية بالنسبة لسيرورة الماركسية واستعادة دورها وتأثيرها في المرحلة الراهنة والمستقبل، عبر منهجية ورؤية تنبثق من الوعي بكل جوانب المسار التطوري الحديث والمتجدد للماركسية من ناحية ، وتتلاءم تماماً مع مقتضيات ومتطلبات الواقع الاجتماعي العربي المعاش من ناحية ثانية.
ما يعني بوضوح شديد رفضنا التعاطي مع الماركسية في إطار منهج أو بنية فكرية مغلقة أو نهائية التكوين والمحتوى، إذ أن الماركسية تكف عن أن تكون نظرية جدلية، إذا ما تم حصرها في إطار منهجي منغلق أو في ظروف تاريخية محددة، لأننا بالمقابل ندرك أن الانغلاق أو الجمود هو نقيض لجدل الماركسية التطوري ، الهادف إلى بلوغ الحرية الحقيقية التي تتجسد في الاشتراكية والتحرر الشامل للإنسان من كل مظاهر القهر والاستغلال والاضطهاد.
فبالقدر الذي نؤمن بأن الماركسية إذا ما كفت عن تجديد نفسها إنما تكف عن أن تكون نفسها ، لذلك فإن جميع الماركسيين في كافة الأحزاب والحركات اليسارية على الصعيدين العربي والأممي، مطالبون بدراسة واقع بلدانهم وتطبيق النظرية على هذا الواقع تطبيقـاً خلاقـاً .
ولهذا أرى أن من واجب قوى اليسار الماركسي العربي، ان تكون معنية بتحديد الموضوعات الأساسية التي يشكل وعيها، مدخلاً أساسياً لوعي حركة وتناقضات النظام الرأسمالي من جهة، وحركة واقع بلدانها بكل مكوناته وآفاق صيرورته التطورية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية من جهة ثانية، انطلاقاً من إدراكها الموضوعي، بان التعاطي مع الماركسية ومنهجها بعيداً عن كل أشكال الجمود وتقديس النصوص ، كفيل بتجاوز أزمتها الراهنة ، إذا ما أدركت بوعي عميق طبيعة ومتطلبات واقع بلدانها بكل جوانبه الاقتصادية والسياسية والمجتمعية.
إن تطور العولمة في صيغتها الأكثر وحشية ” الأمركة ” خلق نوعاً من الحراك الاجتماعي الجديد على مستوى العالم، لكن للأسف ، لا تزال القوى الاجتماعية والحركات السياسية وهيئات ما يسمى بـ المجتمع المدني في بلداننا العربية عاجزة أيضاً عن الانخراط في الحركة العالمية المناهضة للعولمة والأمركة .. لأنها لا تزال جنينية وغير متبلورة بشكلٍ كافٍ لتقوم بالجهد المنوط بها في سياسة هذه الحركة العالمية .
لذلك نطرح مجدداً السؤال التقليدي : ما العمل؟ … ما هي العملية النقيض لذلك كله؟
إن الإجابة عن هذا السؤال مرهونة بصحوة حقيقية نشطة ، سياسياً وفكرياً وتنظيمياً ، من قبل أحزاب وحركات اليسار العربي ، على الرغم من ادراكنا للطبيعة المركبة والمعقدة لأزمة هذه الأحزاب ، ومرهونة أيضاً بتبلور ولادة احزاب وحركات يسارية ماركسية ثورية قادرة على التقاط هذه اللحظة، ومن ثم الالتزام بعملية النضال الحقيقي السياسي الديمقراطي والجماهيري.
لذلك فإن قوى وأحزاب اليسار العربي ، تواجه في هذه المرحلة ، تحدياً كبيراً ، سيحدد مصيرها ووجودها ومستقبلها.
معيقات وصول اليسار إلى الجماهير
أعتقد أن أهم المشكلات التي أدّت باليسار العربي إلى أزمته ، وبالتالي إلى عدم إنتاج وعي مطابق لحركة الواقع العربي ، هو اعتماده بالدرجة الأولى على استعارة مقولات نظرية جاهزة ، صادرة في معظمها من الاتحاد السوفياتي.. وإسقاطها على واقعنا ، دون النظر في متطلبات هذا الواقع وإشكالياته الخاصة .
ثم تبيّن بعد انهيار الاتحاد السوفيتي والمنظومة الاشتراكية ، أن هناك ضرورة لإعادة النظر في كل التجربة الاشتراكية ودراستها ، خاصة وأن أصوات كثيرة معادية للاشتراكية تعالت بعد ذلك معلنة ” موت الماركسية “.
يهمني التأكيد في هذا السياق : إن انهيار الأنظمة الشيوعية التي كانت نتاج النظام الستاليني الشمولي ، لا يعني أن البديل هو الديموقراطية البرجوازية أو الليبرالية الجديدة كما يدعو البعض ، بل إنَّ البديل الحقيقي هو الديموقراطية الاشتراكية التي تعني ضمناً ليس الديموقراطية السياسية فحسب ، بل الديموقراطية وفق المنظور الطبقي الماركسي بمفهومها الأوسع والأشمل, وبأبعادها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية ، وهذا ما كانت تفتقده تجارب بلدان المنظومة الاشتراكية.
عن الاوضاع المأزومة داخل احزاب وفصائل اليسار العربي.
معظم من تحاورت معهم من رفاقي في احزاب وفصائل اليسار العربي يعترفون باستمرار الاوضاع المأزومة في احزابهم دونما توفر المقومات المطلوبة للمراجعة النقدية الشاملة لاوضاعهم التنظيمية والسياسية والفكرية وفق رؤى واليات ديمقراطية جادة ومتواصلة للخروج من الازمة صوب النهوض ، ..وهذا يعني ان الجميع يتحمل المسئولية امام هذا العجز او القصور او الاهمال .
ان ما ينقص قوى اليسار هو الدافعية الذاتية او الشغف والايمان العميق بمبادئه عبر امتلاك الوعي العلمي الثوري في صفوف قواعده وكوادره ، فبينما تتوفر الهمم في أوساط الجماهير الشعبية واستعدادها دوما للمشاركة في النضال بكل اشكاله ضد العدو الامبريالي والصهيوني ، وضد العدو الطبقي المتمثل في انظمة التبعية والتخلف والاستغلال والاستبداد والقمع ، الا ان احزاب وفصائل اليسار لم تستثمر كل ذلك كما ينبغي ، لأنها عجزت – بسبب ازماتها وتفككها الفكري والتنظيمي – عن إنجاز القضايا الأهم في نضالها الثوري .
ثانيا-عجزت بالتالي عن تشخيص واقع بلدانها ( الاقتصادي السياسي الاجتماعي الثقافي ) ومن ثم عجزت عن ايجاد الحلول اوصياغة البديل الوطني والقومي في الصراع مع العدو الامبريالي الصهيوني من ناحية وعن صياغة البديل الديمقراطي الاشتراكي التوحيدي الجامع لجماهير الفقراء وكل المضطهدين من ناحية ثانية.
ثالثا – عجزت عن بناء ومراكمة عملية الوعي الثوري في صفوف اعضاءها وكوادرها وقياداتها ليس بهويتهم الفكرية الماركسية ومنهجها المادي الجدلي فحسب بل ايضا عجزت عن توعيتهم بتفاصيل واقعهم الطبقي (الاقتصاد، الصناعة، الزراعة ، المياه ، البترودولار ، الفقر والبطالة والقوى العاملة، الكومبرادور وبقية الشرائح الراسمالية الرثة والطفيلية ، قضايا المرأة والشباب ، قضايا ومفاهيم الصراع الطبقي.
علاقة القوى اليسارية والعلمانية بالفكر الديني وقوى الإسلام السياسي
في تناولنا لعلاقة اليسار العربي مع حركات الإسلام السياسي ، يهمنا أن نؤكد على أننا لسنا في وارد تناول موضوعة ” الدين” من زاوية فلسفية , في إطار الصراع التاريخي بين المثالية والمادية, فهذه المسألة ليست بجديدة, كما أنها ليست ملحة, كما أن عملية عدم الخلط بين الدين كعقيدة يحملها الناس، وبين الجمهور المتدين تعتبر مسألة مهمة وحساسة , فان يكون لنا موقف فلسفي من الدين، لا يعني على الإطلاق سحب ذلك الموقف على الجمهور المتدين , بل على العكس، فان التحليل الموضوعي ، إلى جانب الوعي والشعور بالمسئولية والواجب، يفترض منا الاقتراب من ذلك الجمهور واحترام مشاعره الدينية، والتفاعل مع قضاياه وهمومه وجذبه إلي النضال من اجل الحرية والعدالة الاجتماعية والديمقراطية وإنهاء كافة أشكال الاستغلال والقهر والاستبداد، انطلاقاً من فهمنا للماركسية بأنها ليست نظرية مضادة للدين – كما يروج دعاة الإسلام السياسي والقوى الرجعية والامبريالية – بل هي طريقة تفكير لفهم الوجود بكليته ، فالماركسية تنظر إلى الدين بوصفه جزءاً من تطوّر الوعي البشري في محاولتهم فهم واقعهم، وصوغ الرؤية التي تكيفهم معه، وأنه شكّل –في مراحل تاريخية معينة- تطوّراً كبيراً في مسار الفكر، وانتظام البشر في الواقع.
وفي كل الأحوال ، يجب ان تظل علاقة اليسار العربي مع قوى الإسلام السياسي ، علاقة متحركة وجدلية تبعاً لتناقضات الواقع والصراعات الطبقية الاجتماعية والسياسات الداخلية، وطبقاً للموقف من التحالف الامبريالي الصهيوني ، دون ان نتجاوز مخاطر تطبيق الرؤية الأيديولوجية الدينية على الصعيد الاجتماعي، حيث يتجلى التعارض والتناقض بصور أكثر حضوراً، سواء على صعيد فهم الديمقراطية كقيم وآليات وممارسة لبناء المجتمع ومؤسساته أو تجاه القضايا الاجتماعية الرئيسية للعمال والفلاحين ، والشباب، وحرية المرأة، وحرية الاعتقاد والرأي والتعبير والاجتهاد والإبداع الثقافي وقضايا العدالة الاجتماعية والاقتصادية بمختلف تجلياتها.
إن وضوح هذه الرؤية، ومن ثم البناء عليها بالنسبة لعلاقة القوى اليسارية مع القوى الإسلامية يتطلب من هذه الأخيرة أن تتخذ موقفاً واضحاً من التوجهات التالية:
أولا: تكريس أسس الدولة المدنية الديمقراطية .
ثانيا: رفض التبعية بأشكالها المختلفة السياسية والاقتصادية والثقافية.
ثالثا: رفض التطبيع بكافة أشكاله ورفض الصهيونية كعقيدة معادية لشعوبنا العربية وحضارتها وتراثها وقيمها.
رابعا: الالتزام بمفاهيم وآليات الديمقراطية السياسية والاجتماعية وترسيخها كنهج حياة مجتمعي.
رفض استخدام الدين كأداة لقمع حرية الفكر والإبداع والبحث العلمي وحرية الرأي والرأي الآخر، وكذلك رفض اختزال الإيمان الديني إلى تعصب حاقد ضد الآراء والأفكار والعقائد الأخرى.
العمل المشترك بين فصائل اليسار محليا وعربيا وعالميا
نرى أن اليسار الفلسطيني منقسم الى فصائل عدة: الجبهة الديمقراطية والجبهة الشعبية، حزب الشعب واحزاب يسارية اخرى ، ما الذي يعيق اندماج تلك الأحزاب اليسارية في حزب او تحالف يساري موحد؟
من هنا يبدو أن عوامل الاستنهاض الثوري الذاتي، في مجمل أحزاب اليسار العربي، باتت اليوم في حالة شديدة من الضعف والتراجع، غير مؤهلة –حتى اللحظة- لهذه المجابهة، مما وفر بالتالي فرص تراكم عوامل الأزمة البنيوية الشاملة فيها، وعندئذ لا مجال للحديث عن أي صحوة أو استنهاض.
لذلك ، فإن رسم أو وضع تصور لمغادرة الأزمة وتجاوزها، يجب أن يبدأ أولا عبر المراجعة النقدية لكل مكونات الخطاب السياسي وآليات العمل التنظيمي والكفاحي والمطلبي ، طوال العقود الأربعة الماضية، -شرط وضوح الهوية الفكرية الماركسية ومنهجها- ، نظرا لأولويتها كحلقة مركزية توفر الأرضية التي تـنبنى عليها الحلقات الأخرى (التنظيمية والسياسية والكفاحية والمجتمعية).
إن نقطة البدء لعملية التصدي للوضع المأزوم ، و الارتقاء بالعامل الذاتي كعقل جمعي ، تتطلب توفير عنصر الوحدة الجدلية بين الوعي و الممارسة لدى كل عضو من اعضاء هذا الحزب أو ذاك، خاصة وأننا نعيش اليوم ، أمام نتيجة مفزعة تتجلى في هذه الهوة المتزايدة الاتساع بين الجماهير من ناحية وأحزاب اليسار العربي من ناحية ثانية .. أما المعوق الرئيسي في اندماج احزاب اليسار فيعود الى تشتتها المعرفي ومنطلقاتها المختلفة (ستالينيه/لينينيه/تروتسكيه/ماويه) وضرورة توحدها في اطار عام تعددي .
وعلى هذا الأساس ، فإننا ندعو إلى البدء في تفعيل عملية الحوار والبحث ، -بكثير من الهدوء والتدرج والعمق- بهدف ايجاد آلية حوار فكري من على ارضية الحداثة والماركسية ، حول كل القضايا السياسية والاقتصادية والمجتمعية القومية والانسانية ، بما يخدم ويعزز الدور الطليعي -الراهن والمستقبلي- لقوى اليسار الماركسي في بلادنا، رغم كل الصعوبات والتعقيدات التي تفرضها الهجمة العدوانية الصهيونية الامبريالية على شعوبنا من جهة ، ورغم ما يعتري هذه المرحلة من ادعاءات القوى الليبرالية الهابطة تجاه ضرورات الماركسية وراهنيتها من الجهة الأخرى.
دور اليسار لحل القضية الفلسطينية
بكل تأكيد هناك علاقة جدلية بين النضال الوطني لقوى التحرر العالمي -وفي مقدمتها النضال الفلسطيني- وبين الاطار الاممي لكن أخطاء التجربة الماضية وضعف القوى الأممية وتراجعها حال دون التوصل الى الحل العادل للقضية الفلسطينية .
لذلك يجب أن يعود لليسار دوره الحقيقي، و أن تعود الماركسيّة منهجيّة تحفر في الواقع، و تؤسّس لتجاوزه نحو المستقبل، وتحقيق الأهداف الوطنية والقومية التحررية والديمقراطية الكبرى التي تفتح الأفق لتجاوز التخلف والتجزئة والتبعية والاستبداد وتحقيق التنمية الاقتصادية وبناء الصناعة الوطنية، والارتقاء في وضع الطبقات الشعبية، وفي تأسيس الدولة العربية الديمقراطية والمجتمع العربي الاشتراكي الموحد.
نحن معنيّون بتأسيس حركة ماركسيّة عربية جديدة، تعمل لأن تكون قوّة فِعلٍ حقيقية، لكن دون أن نتجاهل دور الطبقات الأخرى و الأحزاب الأخرى. لكننا الآن معنيّون بالحوار من أجل أن يصبح نشوء تلك الحركة ممكناً بشرط قوة كل حزب في بلده أولاً .
وهذا يفرض المبادرة إلى إقامة العلاقات السياسية والفكرية والتنظيمية بين كافة قوى وأحزاب وفصائل اليسار عبر رؤية ثورية إستراتيجية مشتركة لا تلغي خصوصية أي حزب أو فصيل، بقدر ما تؤكد على أهمية التنسيق والعمل المشترك بما يؤدي إلى تكريس وتقوية العلاقات عبر اللقاءات الدورية (السياسية والفكرية والتنظيمية) بين جميع قوى اليسار، تمهيداً لوحدة الحركة الماركسية العربية وارتباطها الراهن والمستقبلي بالحركة الماركسية الأممية
أما بالنسبة للعلاقة بين الماركسية والقومية فهي ضرورية بالمعنى الموضوعي النظري لمجابهة اثار العولمة الامبريالية وحلفائها قوى الرجعية العربية والعدو الصهيوني ، رغم قناعتي ان تطور المسألة القومية ما زال مشدوداً لقوى التخلف والتبعية والقطرية والصراعات الاثنية الى جانب ضعف العوامل الاقتصادية للنضوج القومي العربي التي عرفتها أوروبا ، الى جانب تفاقم الهيمنة الاستعمارية والامبريالية على مقدرات شعوبنا من خلال قوى طبقية ضمن الأنظمة الحاكمة توافقت تماماً مع الوجود الامبريالي /الصهيوني ضد أي فكر وطني او قومي تقدمي او ديمقراطي .
الخاتمة:إذا كنا نسلم بأن الحركة الشيوعية العالمية تعيش اليوم أزمتها، إلا أنها ازمة مرتبطة عندي بعملية النمو والتطور،لأن النظام الاشتراكي العالمي بحسابات التاريخ لا يزال حديث الولادة, بالمقارنة بالنظام الرأسمالي العالمي الذي احتاج أربعة قرون لتثبيت أقدامـه على أرض الواقع.
لذلك ليس شاذاً أن يتعرض النظام الاشتراكي العالمي لأزمة نمو بعد انقضاء 100 عاماً فقط على تأسيس أول دولة اشتراكية في التاريخ، فَلَم يعرف تاريخ البشرية حتى الآن ثورة اجتماعية واحدة محصنة ضد الارتداد. الثورات الاجتماعية كالبحار يحكمها قانون المد والجزر, ومهما اشتد أو امتد الجزر, فهو لا يعني نضوب مياه البحر، ولذلك فإن إخفاق النموذج السوفيتي للاشتراكية لا يبرر الشطب بالقلم الأحمر على الماركسية اللينينية. تماماً كما أن موت المريض داخل غرفة للعمليات بسبب خطأ الجراح لا يبرر إلغاء علم الجراحة.
حقاً إن الأوضاع والظروف السائدة، لا تبشر بفرص ثورية في الأمد المنظور، ولكن هاهي وقائع الحياة تؤكد لنا أن هناك أسساً موضوعية لإعادة بناء حركة معادية للرأسمالية على النطاق العالمي. وأن هناك إمكانيات واقعية لتحقيق مكاسب جزئية متزايدة في عملية طويلة معقدة عبر مراحل وسيطة متعددة.
وكما قال بحق الفيلسوف الفرنسي غير الماركسي جان بول سارتر فإن “الماركسية غير قابلة للتجاوز لأن الظروف التي ولدتها لم يتم تجاوزها بعد” ولا زالت البشرية في عالمنا اليوم تعاني من: التفاوت الطبقي, الاستغلال الطبقي, القهر الطبقي, ولم يحدث في تاريخ البشرية أن بلغ الاستغلال والقهر الاجتماعي والإفقار المستوى الذي وصل إليه اليوم، وهو يزداد تعمقاً بفعل العولمة ويصبح تناقضاً بين الرأسمال الدولي والطبقة العاملة العالمية، والماركسية هي النظرية العلمية الوحيدة القادرة على مساعدة البشرية في حل هذا التناقض وإرشاد البشرية في كفاحها للخلاص من الاستغلال الرأسمالي.إن الاشتراكية اليوم ضرورة حتمية لاستمرار الحضارة البشرية، وضمان لا غنى عنه لبقاء الجنس البشري.
لذلك فان المطلوب ماركسية عصرية عبر تجديدها وتطويرها على ضوء الواقع المعاصر بحيث تستجيب لمتطلبات الزمن وخصوصيات الواقع الذي نعيش فيه، ولكي لا تكون الدعوة للتجديد صيحة حق يراد بها باطل ولكي نضمن أن يأتي التجديد: تطويراً في الماركسية لا تطويحاً بالماركسية, وإغناء للماركسية لا استغناء عن الماركسية واجتهاداً في الماركسية لا ارتدادا عن الماركسية.
لذلك على كل حركات اليسار الماركسي العالمي عموما والعربي خصوصا ان يدركوا جيدا أن نظرية ماركس ليس بمستطاع احد ان يتجاوزها شرط ان نستوعب جيدا ايضا ان فهم ماركس للعالم- كما اكد رفيقه انجلز- “ليس مذهباً.. وإنما هو منهج. فهو لا يعطي عقيدة جامدة. وإنما يقدم نقاط انطلاق لبحث ما هو آت “. وكما اكد لينين من بعده على أن : “الماركسية ليست نموذجاً نظرياً للكون, وليست رسماً تخطيطياً ملزماً للجميع, وإنما هي طريقة وأسلوب لإدراك كل ما هو موجود في حركته وتغيره”.